قصة أصحاب الأخدود
ذُكرت قصة أصحاب الأخدود في القرآن الكريم، في سورة البروج.كما ورد شرحها في السيرة النبوية.
حدّث النبيّ -عليه الصلاة والسلام-أصحابه عن قصّة ملكٍ من ملوك الزمن الغابر، وهو ملك كانَ لهُ ساحرٌ مُقرَّب، فلمّا تقدَّم العمر بهذا الساحر، طلب من المَلك أن يبعَثَ إليه غُلاماً؛ حتى يُعلِّمه السحر، فأرسل إليه الملك غلاماً ليُعلِّمه. كان هذا الغلام يذهب باستمرار إلى الساحر، وفي أحد الأيام صادف في طريقه إلى الساحر راهباً، فاستمع إلى كلامه، وأُعجِبَ به، إلّا أنّ الساحر كان يضربه؛ بسبب تَأَخُّره عنه، فشكى الغلام ذلك الأمر إلى الراهب الذي أرشده إلى أن يقول للساحر عندما يسأله: "إنّما حبسَني أهلي"،
وإذا سأله أهله يقول: "إنّما حبسَني الساحر" فاتّبع هذه الطريقة.
وفي يوماً ما، رأى الغلام في طريقه دابَّة عظيمةً تقطع على الناس طريقهم، فقال في نفسه: "اليوم أعرف الساحر أفضل عند الله أم الراهب"،
فقال: "اللهمّ إن كان شأن الراهب عندك أفضل من الساحر فاقتل هذه الدابّة بحجري"، ثمّ أمسَك حجراً، ورمى به الدابّة، فقُتِلَت، فأدرك أنّ أمر الراهب أفضل عند الله من أمر الساحر، فذهب إلى الراهب وحدَّثَهُ بما حصل له، فأخبره الراهب بأنّ شأنه سيكون عظيماً، وأنّه سوف يُبتَلى في حياته، وطلب منه ألا يَدُلَّ عليه إذا تَعرّضَ للابتلاء.
ومرت الأيام وبلغ أمر الغلام مَبلغاً عظيماً، حتى أنّه كان يشفي الناس من أسقامها، ويبرئ الأكمه، والأبرص بإذن الله، ويُشار إلى أنّه اتَّبع هذا الأمر أسلوباً في الدعوة إلى دين الله -تعالى-؛ حيث كان يمرّ على أهل البلاء والأسقام، فيشترط عليهم الدخول في دينه، والإيمان بالله -تعالى-؛ حتى يدعوَ الله أن يشفيَهم من أسقامهم.
فلم يبقَ في قريته أحد يعاني مرضاً إلّا أسلَم، واتّبع دينه.
وفي يومٍ سمعَ أحد جلساء الملك به وكان يشتكي مرضاً، فأتى إلى الغلام بهدايا كثيرة؛ كي يَشفيَه من مَرضه، فقال له الغلام:
"إنّني لا أشفي وإنّما يشفي الله"، وطلب منه أن يؤمن بالله؛ حتى يدعوَ الله له بالشفاء، فآمنَ جليس الملك بالله، ثمّ دعا له الغلام فشُفِي من مَرضه.
لاحظَ الملك شفاء جليسه من مَرضه، فسأله عن سبب شفائه، فقال له: "إنّما شفاني الله"، فغضب الملك من ردّه؛ لأنه كان يَدَّعي الربوبيَّة من دون الله، فقال له جليسه: "إنّ الله هو ربّي وربّك"، فأمَر به المَلك فعُذِّب إلى أن دلّ على الغلام.
جاء الملك بالغلامِ حتّى وقف عنده، وهنا بدأت قصة الغلام والملك. سأل الملك الغلام من علمه كل هذا فرفض أن يعترف فُعذِّب حتى دلّ على الراهب، فأُتى الملك بالراهب وعذّبه حتى يرجع عن دينه إلّا أنّه أبى، فشُقَّ بالمنشار شِقّين حتى مات.
ثمّ أُتى بجليس الملك فعُذِّب حتى يرجع عن دينه فأبى، ففعلوا به نفس ما فعلوه بالراهب.
وجاء دور الغلام وطلب منه الملك أن يرجع عن دينه فأبى، وهنا أمر الملك أتباعه أن يأخذوه إلى ذروة الجبل، ويُخيِّروه بين أن يرجع عن دينه، أو أن يُرمى من الجبل. فدعا الغلام ربّه بقوله: "اللهمّ اكفنيهم بما شئت"، فتنزلت رحمة الله عليه وكفاه شرّهم، إذ رجف بهم الجبل؛ فتردّوا إلى أسفله.
رجع الغلام إلى الملك فأدرك نجاته، فأمر أصحابه أن يحملوه في سفينة حتى إذا كانوا في عرض البحر ألقَوه منها، فكرر الغلام الأمر ودعا ربّه وهو على السفينة أن يكفيَه شرَّهم فاستجاب الله دعاءَه؛ وانكفأت السفينة بهم فغرقوا وماتوا جميعاً، وخَرَجَ الغُلام سالماً من بينهم.
وعاد الغلام إلى الملك مرة ثانية، وبيَّن لهُ استحالة قَتله إلّا بطريقةٍ واحدة، وهي أن يصلبه على جذعٍ، ثمّ يجمع الناس في صعيد واحد، ويأخذ سهماً من كنانة الغلام، فيقول: "باسم الله ربّ الغلام"، ثمّ يرمي السهمَ، ففعل الملك ما طلبه الغلام، ورمى الغلام بالسهم، فوقع في صِدغه، ووضع يده على صِدغه فمات، فصاح الناس: "آمنَّا بربّ الغُلام".
وهنا حدث مالم يتوقعه الملك حيث شاهد الذين جمعَهم الملك ما حصل للغلام فآمنوا جميعاً بالله -تعالى- فاغتاظ الملك لذلك بعد وقوع ما كان يحذَر منه، فأمر بالأخاديد أن تُشَقّ في سِكَك المدينة، وأُلقِي فيها كلّ من آمنَ بربّ الغُلام، وأُضرِمت فيهم النيران؛ بسبب رفضهم الرجوع عن دينهم، وقد تضمّنت قصّة أصحاب الأخدود موقف المرأةِ المُرضِع التي كانت في زمرة المؤمنين الذين تعرّضوا للامتحان حينما شقّ لهم الملك الكافر الأخاديد، وساومهم على اقتحام النيران، أو الرجوع عن دينهم، وقد تحدّثت الروايات عن موقف تلك المرأة الصابرة حينما أرادت الرجوع عن موقفها بعد أن أشفقت على نَفسِها ورَضيعها، فإذا بالرضيع يُخاطبها بكلمات بثَّت في نفسها القوّة والصبر على ذلك البلاء، ومن تلك الكلمات قوله: "اصبري يا أمّاه فإنّك على الحقّ"، وفي رواية أخرى أنّه حَثّها على المُضِيّ في أمرها، واقتحام النار، وعدم الجزع.
أخيراً أصحاب الأخدود هم رعيَّةُ آخر ملوك حِميّر؛ وهو زِرعَةُ بن تبان أسعد الحِميَريّ المَعروف بذي نواس، وقد كان هذا الملك يهوديَّاً اعتنقَ عددٌ من رعيّته النصرانيّة، فسار إليهم بجيشٍ من حِميَر؛ حتى يُجبرهم على الرجوع عن دينهم الذي اعتنقوه، وخيّرهم بين القتل، أو الرجوع إلى دينه، فاختاروا القَتل والصَبر على هذا المحنة، فشُقَّت لهم الأَخاديد. أما عن عددهم، فقد قِيل إنّهم كانوا سبعينَ ألفاً، وقِيل عشرين ألفاً، وقِيل اثني عشر ألفاً، وذُكِر أنَّ أَصحاب الأُخدود لا يُقصَد بهم من وُضِعُوا في النار وأُحرِقوا فيها، وإنَّما من شقَّ الأَخاديد وحفرها؛ ولذلك يقول الله -تعالى-في كتابه العزيز: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)؛ أي لُعِن أصحاب الأخدود بسبب فِعلهم الشنيع، وهو حفر الأخاديد، وإشعال النيران بالمؤمنين.