سيف الدين قطز قاهر المغول في معركة عين جالوت


سيف الدين قطز قاهر المغول في معركة عين جالوت

ومن أعجب العجب تهديد الليوث بالرتوت، والسباع بالضباع، والكماة بالكراع، خيولنا برقيه، وسهامنا يمانية، وسيوفنا مضريه، وأكتافها شديدة المضارب، ووصفها في المشارق والمغارب، فرساننا ليوث إذا ركبت، وأفراسنا لواحق إذا طلبت، سيوفنا قواطع إذا ضربت، وليوثنا سواحق إذا نزلت، جلودنا دروعنا وجواشننا صدورنا، لا يصدع قلوبنا شديد، وجمعنا لا يراع بتهديد.
رسالة قوية أرسلها سيف الدين قطز للمسمى هولاكو رداً على تهديده لجيش المسلمين، ومطالبتهم بالاستسلام.
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الدمار الشامل الذي ألحقه المغول في بغداد بعد سقوطها، وقتل أعداد ضخمة جداً من سُكانها حتى تناثرت الجثث في الطرقات كأنها تلول. وأنتنت المدينة من رائحة القتلى، وتغير الهواء وأصبح مُحمّل بالمرض والوباء، حتى اضطر هولاكو أن ينقل مخيمه من المدينة بسبب رائحة العفونة.
فكّر هولاكو بحرق بغداد على بُكرة أبيها ولكنه غير رأيه لأن بغداد مقصد التُجار من كل حدبٍ وصوب ويمكنها أن تعود بالأموال الطائلة عليه.
لم يتوقف هولاكو عن دمويته ووحشيته فأصبح يُفكّر في غزو الشام، ولكن جاءه رسول من الناصر يوسف الأيوبي صاحب حلب في الشام، يسأله معونته على غزو مصر للانتقام من المماليك الذين انتزعوا البلاد من الأيوبيين.
استجاب هولاكو لدعوة الناصر الأيوبي، وقرر إرسال قوة من عشرين ألف فارس إلى الشام، وزحف المغول من العراق إلى الشام، ودخلوا حلب وسيطروا عليها ببساطة، ولم يستطع المسلمين الدفاع عنها، وهنا آفاق الناصر يوسف لحقيقة خطر المغول فأرسل إلى المظفر قطز صاحب مصر يطلب منه النجدة السريعة.
قطز هو سيف الدين قطز ابن عبد الله المعري، واسمه الحقيقي محمد بن ممدود بن خوارزم شاه، وسيف الدين هو لقبه آنذاك. وهو سلطان مصر ويعتبر ثالث سلاطين الدولة المملوكية، حكم مصر عام 1259م لمدة عام واحد فقط واغتيل في السنة التي تليها عام 1260م، وهو مسلم ابن مسلم مصري من أصل مملوكي، ورغم قصر فترة حكمه إلا أنها تعتبر من أهم فترات مصر وهو أيضاً اعتبر من أقدر حُكّامها.
أبوه هو قائد جيوش المملكة الخوارزمية، وتبع ذلك وجود مناوشات بين التتار وخوارزم شاه إلى أن مات جده وتولى خاله جلال الدين الحكم وازداد الصراع بينهما حتى كاد التتر يهزم المسلمين وفقد الملك جلال الدين ابنته جهاد وابنها محمود المسمى" قطز" وبيعا في سوق العبيد، وتنقل من مالك لآخر حتى وصل عند عزالدين أيبك وهو أحد أمراء مماليك البيت الأيوبي في مصر. وقد أحسن تربيته وتعليمه، وتطور في تولي المناصب حتى وصل قائداً لجند أيبك ثم أصبح قائداً للجيوش جميعها.
بعد أن تولى الملك عزالدين أيبك السلطة عين قطز نائباً للسلطنة وبعد أن قُتل عزالدين أيبك، تم تعيين السلطان الطفل منصور نور الدين بن عزالدين أيبك وهو عمره 15 عاماً حاكماً على مصر وكان صغيراً جاهلاً وأدخل ذلك مصر في صراعات كبيرة وطمع بها الممالك البحرية، واستطاع قطز بفضل خبرته وذكائه أن يرد أذاهم، وحفاظاً على هيبة مصر وخوفه عليها من الانهيار اتخذ قراراً جريئاً بعزل السلطان الطفل وتولي العرش مكانه. وبهذا أصبح سيف الدين قطز هو حاكم مصر.
كانت أول خطوة قام بها قطز هو إعداده لحرب التتار والعمل على استقرار الوضع الداخلي في مصر، وقطع أطماع الآخرين في الكرسي الذي يجلس عليه، وما كان من قطز إلا أن جمع الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي وقال لهم) إني ما قصدت إلا أن نجتمع على قتال التتار ولا يأتي ذلك بغير ملك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو فالأمر لكم أقيموا في السلطة من شئتم). فهدأ معظم من حضر الاجتماع ورضوا بما قال، ثم قام قطز بالقبض على رؤوس الفتنة الذين حاولوا الخروج على سلطته وحكمه، وبذلك هدأت الأمور نسبيًا في مصر، أما الخطوة الثانية التي قام بها قطز فهي إصداره لعفو عام وشامل عن المماليك البحرية الذين فروا إلى الشام بعد مقتل زعيمهم فارس الدين أقطاي، كانت هذه الخطوة أبرز قرار سياسي اتخذه قطز، فقوات المماليك المعزية لا تكفي لحرب التتار، وكانت المماليك البحرية قوة عظيمة وقوية جداً ولها خبرة واسعة في الحروب، فإضافة قوة المماليك البحرية إلى المماليك المعزية ستنشئ جيشاً قوياً قادراً على محاربة التتار.
وبالعودة للمغول وزحفهم في الشام وسيطرتهم على حلب بسهولة، خاف أغلب أمراء الشام من قوتهم، وقرروا الاستسلام للمغول من دون مقاومة، ولكن الأمير ركن الدين بيبرس أحد أمراء المماليك البحرية بالشام، لم يعجبه التهاون والاستسلام فسار إلى غزة وأرسل إلى السلطان قطز يعرض عليه توحيد جهود المسلمين ضد خطر المغول، وفي الحال استجاب قطز للدعوة. وطلب من بيبرس القدوم واستقبله بدار الوزارة.
استمر زحف المغول بالشام، واضطربت أحوالها ففي خلال ستة عشر يوماً، دخل المغول دمشق ونهبوها، كما سيطروا على بعلبك وبانياس وملأوا البلاد قتلاً ونهباً.
وصل بعد ذلك لقطز في مصر خطاب تهديد من هولاكو يطلب منه تسليم مصر والاستسلام، وكان نص رسالته (من ملك الملوك شرقًا وغربًا القان الأعظم، انّا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه. فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن اشتكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فأبشروا بالمذلة والهوان)
لكن قطز لم يخاف من تهديد هولاكو واعتبر الرسالة إعلاناً صريحاً بالحرب ورد عليه برسالتين رسالة عملية، ورسالة نصية فقام بقتل رُسُل المغول والإبقاء على رسول واحد ليعود برسالة قطز. وعلّق رؤوس رسله على باب زويلة وكانت أول الرؤوس تعلّق هناك ليكونوا عبرةٍ لمن لا يعتبر. وأرسل برسالة قوية لهولاكو يوضح فيها قوة جيش المسلمين وعدم خوفهم من الشهادة في سبيل الدفاع عن بلادهم وكان نصها
(قل اللهم على كل شيء قدير والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي، على كتاب ورد فجراً عن الحضرة الخاقانية، والسدة السلطانية نصر الله أسدّها، وجعل الصحيح مقبولاً عندها، وبان أنكم مخلوقون من سخطه، مسلطون على من حل عليه غضبه، ولا ترقون لشاكٍ، ولا ترحمون عبرة باكٍ، وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم، وذلك من أكبر عيوبكم، فهذه صفات الشياطين، لا صفات السلاطين، كفى بهذه الشهادة لكم واعظا، وبما وصفتم به أنفسكم ناهيا وآمرا، قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ففي كل كتاب لعنتم، و بكل قبيح وصفتم، و على لسان كل رسول ذكرتم، و عندنا خبركم من حيث خلقتم وأنتم الكفرة كما زعمتم ألا لعنة الله على الكافرين، وقلتم أننا أظهرنا الفساد؛ ولا عَز من أنصار فرعون من تمسك بالفروع ولا يبالي بالأصول، ونحن المؤمنون حقاً لا يداخلنا عيب، ولا يصدنا غيب، القرآن علينا نزل هو رحيم بنا لم يزل، تحققنا تنزيله وعرفنا تأويله، إنما النار لكم خلقت، و لجلودكم أضرمت، إذا السماء انفطرت
ومن أعجب العجب تهديد الليوث بالرتوت، والسباع بالضباع، والكماة بالكراع ، خيولنا برقيه، وسهامنا يمانية، وسيوفنا مضريه، و أكتافها شديدة المضارب، و وصفها في المشارق والمغارب، فرساننا ليوث إذا ركبت، و أفراسنا لواحق إذا طلبت، سيوفنا قواطع إذا ضربت، وليوثنا سواحق إذا نزلت، جلودنا دروعنا وجواشننا صدورنا، لا يصدع قلوبنا شديد، وجمعنا لا يراع بتهديد، بقوة العزيز الحميد، اللطيف لا يهولنا تخويف، ولا يزعجنا ترجيف، إن عصيناكم فتلك طاعة، وإن قتلناكم فنعم البضاعة، وان قتلنا فبيننا وبين الجنة ساعة، قلتم قلوبنا كالجبال ، وعددنا كالرمال؛ فالقضاء لا يهوله كثرة الغنم، و كثرة الحطب يكفيه قليل الضرم، أفيكون من الموت فرارنا وعلى الذل قرارنا ؟ ألا ساء ما يحكمون، الفرار من الدنايا لا من المنايا، فهجوم المنية عندنا غاية الأمنية، إن عشنا فسعيدا، وإن متنا فشهيداً، ألا إن حزب الله هم الغالبون، أبعد أمير المِؤمنين وخليفة رسول رب العالمين تطلبون منا الطاعة؟ لا سمعاً لكم ولا طاعة، تطلبون أنا نسلم إليكم أمرنا، قبل أن ينكشف الغطاء ويدخل علينا منكم الخطاء
هذا كلام في نظمه تركيك وفي سلكه تسليك، ولو كشف الغطاء ونزل القضاء، لبان من أخطأ، أكفرٌ بعد الإيمان ونقضٌ بعد التبيان؟ قولوا لكاتبكم الذي رصف مقالته، وفخّم رسالته، ما قصرت بما قصدت، وأوجزت وبالغت، والله ما كان عندنا كتابك إلا كصرير باب، أو طنين ذباب، قد عرفنا إظهار بلاغتك، وإعلان فصاحتك. وها نحن أولاء في أواخر صفر موعدنا الرَسْتَن وألا تعدنا مكان السلم، وقد قلنا ما حضر. والسلام)
وعلى إثر هذه الرسالة عقد قطز مجلساً ضمّ كبار الأمراء والقادة والوزراء، وشجعهم على الدفاع عن الإسلام ونساء المسلمين.
بدأ قطز بتجهيز جيشه، وعزم الخروج بجيشه لملاقاة التتار في فلسطين بدلاً من أن ينتظرهم في مصر. قام قطز بجهود حثيثة لتمهيد طريق الجيش للقاء التتار، كانت هناك أجزاء من فلسطين وساحل البحر الأبيض المتوسط محتلة من قبل الإمارات الصليبية، وكان أسلم حل عقد معاهدة سلام مؤقتة بين المسلمين والصليبيين، كان الهدف منها هي تحييد جيش الصليبيين من جهة وتأمين ظهر جيش مصر من جهة أخرى.
كان سيف الدين قطز قد سلك في ترتيب جيشه نهجاً جديداً في التخطيط العسكري، حيث كون في مقدمة الجيش فرقة كبيرة نسبياً على رأسها بيبرس، وجعل هذه الفرقة تتقدم كثيراً عن بقية الجيش التي تسير خلفها، وتظهر نفسها في تحركاتها، بينما يتخفى بقية الجيش في تحركاته، فإذا كان هناك جواسيس للتتار اعتقدوا أن مقدمة الجيش هي كل الجيش، فيكون استعدادهم على هذا الأساس، ثم يظهر بعد ذلك قطز على رأس الجيش الأساسي، وقد فاجأ التتار الذين لم يستعدوا له. وهذا ما حدث فعلاً. وتقابل الجيوش الرئيسية للمسلمين والتتار على أرض غزة، واستطاعت مقدمة جيش المسلمين أن تنتصر في هذه الموقعة الصغيرة، التي قُتل فيها بعض جنود الحامية التترية، وفرّ الباقون.
وجد سيف الدين قطز سهل عين جالوت منطقة مناسبة للمعركة مع التتار، فهو سهل واسع منبسط تحيط به التلال المتوسطة من كل جوانبه إلا الجانب الشمالي منه فهو مفتوح، كما تعلو التلال الأشجار والأحراش، مما يوفر مخبأً مناسباً لجيشه فيسهل عمل الكمائن على جوانبه المنبسطة، فرتب جيشه بسرعة، واستمر التتار في تقدمهم حتى وصلوا عين جالوت.
وفي يوم الجمعة 25 رمضان 658 هـ / 3 سبتمبر 1260، صلى جيش المسلمين صلاة الفجر. وكانت معركة عين جالوت الحاسمة التي أوقفت زحف المغول المعركة الأولى التي يهزم فيها جيش المغول منذ عهد جنكيز خان.
كان للانتصار في معركة عين جالوت أثرا كبيرا جداً في رفع معنويات المسلمين من جهة، وفي طموح المسلمين في تحرير ما بقي من مدن وبلدات العالم الإسلامي التي كانت تقبع تحت احتلالين: الأول الاحتلال المغولي والثاني الاحتلال الصليبي، وتبدد الاعتقاد بمقولة أن التتار لا يمكن أن يُهزموا، وبدأ المماليك في الإعداد لاستعادة هيبة الإسلام بعد غياب دام سنين طويلة.
بهذا كانت نهاية التتار وعودة انتصار الإسلام والمسلمين.


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-